العرافة



 الفصل الرابع 

في وقت لاحق من ذلك اليوم، داخل مكتب مدير جامعة أيجه، كان احمد عمران يتحدث إلى سيلا بلطف:

«الجامعة قررت تهد المبنى القديم الشهر الجاي... هتحتاجي تنقلي المعمل بتاعك.»


ردت دون أن ترفع عينيها عن القلم:

«لو نويين تحطوني في المبنى الجديد، يبقى لأ.»


«ليه كده؟ ده فيه كل حاجة حديثة، وغرف تبريد، ومساحات واسعة!»


قالت بحسم:

«أنا مبحبش الزحمة. مالكش دعوة... انا هلاقى حل.»


ثم وضعت صندوقًا صغيرًا على مكتبه بلا مبالاة، قائلة:

«دي الهدية اللي كنت مديونالك بيها.»


فتح الصندوق بتلهف، فوجد ثلاث كبسولات سوداء، تفوح منها رائحة أعشاب قوية.


أخذت كبسولا، مسحتها، ووضعتها في فمه قائلة:

«إنت مش بتمشي كويس... بتسهر، وبتدخن، وبتاكل مقلي، ضغطك مش ثابت، وكبدك وكليتك فيهم مشاكل. التلات حبوب دول هينقذوا حياتك لو جاتلك الازمه .»


تابعت، وهي تهمس ليه:

«بلاش تسوق الأسبوع الجاي. خلّيك في البيت بدري، ولو فاضي، اتبرع للجمعيات الخيرية...»


سألت عمران، وهو يحاول كتم فرحته:

«الدواء ده... والدك اللي بعته؟»


أظلم وجه سيلا وهي تقول بصوت منخفض:

«العجوز  الحقير ده مختفي بقاله أكتر من سنة... وأنا اللي عملت الحبوب دي بنفسي.»


اقترب عمران منها ونقر على جبينها بخفة كأنه يوبّخها، وقال بابتسامة ماكرة:

«قلة أدب! لو الأستاذ صالح عرف إنك قلتي عليه كده، كان زمانه علمك درس مننسهوش .»


زادت نظرات سيلا حِدّة، واكفهرّ وجهها أكثر:

«بلاش تفكرنى أصلاً... مجرد اسمه بيستفزني.»


رد عمران وهو يتأملها بنظرة ملؤها الحذر:

«بُصي لنفسك... إزاي في ضغينة زي دي ممكن تكون بين أب وبنته؟ وبالنسبة للي حصل وقتها...»


لكن قبل أن يكمل، كانت سيلا قد وضعت باقي الحبوب في جيبه، وقالت بنبرة حاسمة:

«عمران، أنا ماشية دلوقتي.»


مد إيده بسرعة يمنعها:

«استني. بكرة بداية السنة الدراسية رسميًا.

السنة اللي فاتت كنتِ بتتغيبي عن الحصص كتير، فالسنة دي، عالأقل احضري أول يوم.»


وبتواضع أكتر، أضاف وهو يطالعها بنظرة شبه مترجّية:

«مش بطلب منك تيجي كل يوم، بس احضري كده شكليًا... قدّام الناس.»


ردت عليه وهي بتتجه ناحية الباب:

«لو جالي مزاج، هشوف.»


---


وفي الطرف الآخر من المدينة، كان جمال قد تلقى نبأ إطلاق سراح سيلا.

في عقله، ما حصل لم يكن إلا ناتجًا عن احترام عثمان باشا لـ جنى.

بل وبدأ يتخيّل أن جنى، ربما، هتبقى يومًا ما السيدة زهران بسبب ذكاءها الملفت.


وبعد ما عرف بخروجها ، كلمها  لمقابلته في أحد المقاهي.

ماكانش في داعي للّف والدوران...

قالها مباشرة، وبنبرة جامدة:

«بُصي بقى يا سيلا... عشان أكون صريح، رجوعك لعايلة التهامى ليه تمن.»


نظرت له بثبات، دون رد.


قالها بصوته البارد:

«أخوكِ حالته صعبة، وبيموت، ومحتاج كليتك... لو وافقتِ تساعدي، هتقدري تطالبي بميراثك من العايلة.»


كان جمال واثق إن البنت اللي عاشت في فقر، هتكون ملهوفة على حياة الثراء.

في نظره، مقايضة كلية بالفلوس والمكانة كانت صفقة مربحة ليها.


أما الأطباء اللي تم القبض عليهم، فكلّف محامي يتصرّف معاهم، عشان يضمن سكوتهم.

وما دام محدّش ذكر اسمه، هيعرف يخرجهم بعدين بهدوء.


---


رفعت سيلا حاجبها وقالت ببرود:

«تقرير الحمض النووي معايا، سواء اعترفتوا بيا أو لأ... ليّا الحق أطالب بميراثي بعد موتك.»


ثم نظرت له بحدة، وأضافت:

«أما ابنك اللي خلفتوا من شهيره... فهو أخد جزاءه.»


كانت قد حقّقت سابقًا عن جاد، واعتبرته وضيع بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

أما جمال، فكان غاضب لدرجة إن ملامحه قربت تنفجر:

«بلاش قسوة... مهما كان، هو أخوكي من ابوكى. ماينفعش تتجاهلي حياته كده.»


كان شايف إن ثروة عايلة التهامى كلها هتروح لابنه.

ولولا إن كلية جنى مش متوافقة مع جاد، مكانش فكر في سيلا أصلاً.


ضحكت سيلا بسخرية:

«لو كانت صلة الدم مهمة أوي... ليه تجاهلتني أنا وأمي طول السنين دي؟»


تنهد جمال وقال كأنه بيبرّر نفسه:

«أمك خدتِك ومشيت، وأنا ماكنتش أعرف مكانكم.»


ردت عليه بحدة:

«وما تعرفش ليه خدتني؟»


رفع صوته:

«سيلا، بلاش نرجع للماضي دلوقتي. جاد في المستشفى، بين الحياة والموت، ومستنيك تنقذيه. نتكلم عن اللي فات بعدين.»


ضحكت مرة تانية، لكن الضحكة كانت مَرّة:

«ولا حتى لو عاوزة، أقدر أتبرع بكليتي له...  انت متأكد أصلاً إنه مش هيوصل لغرفة العمليات؟»


كان واضح إنها على دراية تامة بحالته المتدهورة.

ومع ذلك، جمال أصر بعناد، عينه فيها حُمرة:

«إنتي لازم تيجي معايا المستشفى حالًا!»


ردت عليه وهي سحباه بكلامها من فوق:

«زي ما قلت، التبرع مش خيار... بس أعرف دكتور شاطر جدًا ممكن يساعده بالأدوية.»


وبلهجة أكتر جدية:

«جرعة واحدة كل أسبوع، وبعد شهر، جسمه هيبقى مؤهل للعملية... ساعتها تدوروا على كلية تانية. طالما عندكم فلوس، هتلاقوا فرصة كويسه .»


رغم إن كلامها منطقي، إلا إن جمال انفجر:

«دواء؟! إنتي بتهزري؟! أنا لفيت بيه مستشفيات كتير، ومفيش حل غير زراعة الكُلى.»


قالت وهي ثقتها ثابتة زي الصخر:

«ما تتكلمش باستسهال كده... شوف رأي دكتور استشارى قبل ما تطلع أحكام.»


مد إيده وقال بنفاد صبر:

«اديني رقم تليفون  بتاع الدكتور ده دلوقتي.»


ابتسمت وهي تحط رجل على رجل:

«فاكرني هساعد ببلاش؟»


ضاق صدره وقال بصوت مبحوح:

«عاوزة إيه؟»


قالتها بكل هدوء:

«نُص ثروة عايلة التهامى.»


شهق وكأنه اتخنق من الصدمة:

«إنتي مجنونة؟ مستحيل!»


رفعت كتفيها باستخفاف:

«يبقى خلّينا نقفل الكلام من دلوقتي.»


صرخ:

«إنتي بتتلاعبي بيا انتى ازاى كدا ؟!»


ردت ببرود:

«أنا جرأتي جاية من إنّي مستعدة أتحمل تبعات كل كلمة بقولها.»


ثم أخرجت من شنطتها زجاجة صغيرة فيها حبوب وقالت:

«دي أول جرعة. لو ما خرجش جاد من العناية المركزة خلال أسبوع، يبقى فعلاً كلامي كله كان هزار.»


مدّ إيده وقال بتوتر:

«لو بتحاولي تضحكي عليا بعلبة دوا...»


ردت:

«إنت حر... خدها أو سبها.»


فكّر جمال شويّة، لكن الوضع كان مأساوي.

ابنه بيموت، والدكاترة رفعوا إيديهم...

فماكانش قدامه غير المغامرة دي.


مدّ كفّه وقال:

«اديهالى .»


أعطته إياها وقالت ببرود:

«دي جرعة أسبوع... لو عاوز كمان بعد كده، هتدفع التمن اللي يليق.»


---


وفي اليوم التالي، فتحت جامعة ايجه أبوابها لاستقبال العام الدراسي الجديد.

كمؤسسة تعليمية راقية في ازمير، ماكانش من السهل أبدًا دخولها.

وكان كل طالب داخلها يُعتَبر إنجاز في حد ذاته.


وفي يوم البداية، دخلت شهيره مع جنى من بوابة الجامعة، وهي مرفوعة الرأس، هى وجنى .

السبب؟ حالة ابنها اللي كانت شبه ميؤوس منها بدأت تتحسّن فجأة، وكانت فرحتها لا توصف.


كانت شهيره في شبابها ممثلة شهيرة، وبرغم اعتزالها، لسه ليها هيبة وسطوة.


بمجرد دخولها، الناس بدأت تلتفت، طلبوا منها توقيعات، وسلّطوا الأضواء على جنى، اللي بقت حديث الطلبة.


وانتشرت سمعتها زي النار في الهشيم:

«دي المعجزة الجميلة اللي كسبت الجايزة الأولى في مسابقة السيبرانية؟!»


ابتسمت شهيره وقالت بفخر:

«بُصي، جنى مش بس شاطرة في التكنولوجيا... دي بتتكلم خمس لغات. ولسّه ما دخلتش الجامعة، وكمان عايلة زهران خلاص اختاروها.»


حملت نبرة "شهيره" وكلماتها غموضًا لا يخفى، كأنها تخفي أكثر مما تُظهر.


هل كان الأمر مجرد ترتيب داخلي للعمل ضمن مجموعة "زهران"، أم أنه ترتيب داخلي للارتباط بعائلة "عثمان" من خلال الزواج؟ وحده خيال المرء من يمكنه أن يُكمِل الصورة.


كانت مكانة عائلة "زهران" دائمًا ما تحيط بها هالة من الغموض والدقة، وكانت "جنى" ترى أن ضمان صلة نسب مع عائلة كهذه سيمنحها استقرارًا أبديًا.


لكن وهي تتلذذ بهذا المجد الزائف، كأنها في مركز دائرة الضوء، تغيّر كل شيء بمجرد ظهور "سيلا".


تبدلت ملامح "شهيره" و"جنى" في اللحظة التي وقعت فيها أعينهما عليها.


كانت "سيلا" ترتدي زيًا رياضيًا أنيقًا يشبه بدلة بيسبول، وقد جمعت شعرها الطويل للخلف، ونظارات سوداء كبيرة حجبت نصف ملامح وجهها.


لم يكن طولها، الذي بلغ 165 سم، هو الأطول بين الفتيات، لكن قوامها اتّسم بتناسق نادر يُشبه النسبة الذهبية.


وبلمح البصر، بهتت أناقة "شهيره" ورفاهية "جنى" الفاخرة، بمجرد أن دخلت "سيلا" المشهد.


كانت كأنها قطعة فنية حية، لا تَظهر إلا لتخطف الأنظار.


شهق البعض في الخلفية بدهشة حقيقية:

- "مين دي؟ شكلها خطير أوي... رجليها أحلى من اللي بعدلهم بالفوتوشوب!"

قال آخر وهو يتفحّصها:

- "مش جسمها بس، حتى وهي لابسة نضارة، باين عليها قمر."


فالجمال الحقيقي، سواء أكان في شاب أم فتاة، يُثير دومًا فضول الناظرين.


رغم شهرة "شهيره" كممثلة، وابنتها "جنى" المُلقبة بالمعجزة، فإن جمالهما المُصطنع بدا باهتًا مقارنةً ببساطة "سيلا" الطبيعية.


لاحظت "شهيره" أن "سيلا" تتجه نحوهما، فشحب وجهها من الغيظ، وتمتمت بنبرة حاولت أن تُخفي بها حنقها:

- "سيلا؟"


ابتسمت "سيلا" ابتسامة لا مبالية:

- "هاي... مرات ابويا اللي خربت حياة أمي."


اتسع اتساع عيني "شهيره"، وتحول وجهها بين الشحوب والاحمرار.

- "إنتي بتعملي إيه هنا؟"


كان "جمال" قد أخبرها فقط أن حالة "جاد" تحسّنت... لم يذكر شيئًا عن خروج "سيلا" من الاحتجاز.


- "بداية السنة الدراسية، جايه أسجل، في حاجة؟"

ردت بها بهدوء تام.


ضحكت "شهيره" بسخرية:

- "جامعة ايجه؟ دي من أرقى جامعات ازمير. إزاي بنت فلاحين زيّك تفكّر تدخلها؟ هو الجامعة بقت تقبل أي حد دلوقتي؟"


سألت "جنى" بصوت عالٍ قاصدة السخرية:

- "مش المفروض تكوني جوه السجن دلوقتي؟"


وفور نُطقها، ساد المكان همس من الدهشة.


ابتسمت "سيلا" ببرود:

- "بقينا بنوزّع اشاعات ببلاش ولا إيه؟  بنقول كلام كدب قدام الناس؟"


ثم أكملت بنبرة هادئة:

- "بصراحة معرفش الجامعة معاييرها إيه، بس اللي أعرفه إني اتقبلت بقدراتي."


صرخت "شهيره":

- "مستحيييل!"


وقبل أن تنطق بكلمة أخرى، دوّى صوت من بين المتجمهرين:

- "سيلا كانت الأولى في اختبار الـSAT السنة اللي فاتت. ايجه نفسها قدمتلها منحة كاملة، وهي دلوقتي في قسم الأحياء. خدت أجازة طويلة عشان أسباب صحية، ومع ذلك متفوقة في كل الامتحانات."


كان المتحدث شابًا وسيمًا، هادئ الطباع، تعرفه "شهيره" و"جنى" جيدًا.


إنه "جاسر"، الابن الأصغر لعائلة "صقر اغلو"، العائلة التي تقف على قدم المساواة مع "زهران".


وبحديثه العلني، شلّ قدرتهما على الإنكار.


"سيلا" لم تكن ممن يقبلون بالخسارة، وبتثبيت نظارتها على جسر أنفها، قالت بنبرة واضحة:

- "دي زوجة أبويا وأختى، قلقانين إني آخد حاجة من ميراث عايلة التهامى، ومستعدين يشوّهوا سمعتي بأي تمن."


ثم أردفت، والابتسامة لا تفارق وجهها:

- "زي ما بيقولوا... مع مرات الأب بييجي جوز الأم. أكيد كلكم فاهمين المغزى."


لم يكن أحد يجرؤ على منافستها في ضربات كهذه.


قالت "جنى" بصوت مهزوز:

- "أنا فاهمة إنك غيرانة مني، بس متزودهاش أوي!"


رفعت "سيلا" حاجبًا وهي ترد بسخرية لاذعة:

- "أنا أغار من إيه؟ من لقب شرف خدته أمك لما خطفت راجل متجوز؟ ولا من جايزة خدتِها واتفضحتي بعدها بلحظات؟ ولا من كونك اتنقلتي من بنت مش معترف بيها لبنت معترف بيها  عن طريق فضيحة؟"


وقبل أن تنبس "جنى" أو "شهيره" بحرف، استدارت "سيلا" وغادرت بخفة، تاركةً وراءها أثرًا لا يُمحى في أذهان الحضور.


ولم تبتعد كثيرًا... حتى جاء "جاسر" يركض خلفها،

- "سيلا، على الأقل قوليلي شكراً. أنا اللي ساعدتك قدام الناس."


تعرفا على بعضهما أول مرة داخل الجامعة، حين اختارا نفس القسم - الأحياء.


أُعجب "جاسر" بها منذ اللحظة الأولى، ليس حبًا، بل انبهارًا.


سارت "سيلا" بجواره وقالت بلا اهتمام:

- "خلاص... اعتبرني مَدينة ليك."


ضحك "جاسر":

- "بصي، سداد دينى مش سهل، وأنا مش ناوي أسيبه يعدّي بالساهل."


ثم أضاف بنبرة مازحة:

- "إنتي مش من النوع اللي بيحب يهزر، شكلك مش بتضحكي أصلاً! صحتك عاملة إيه؟ ناوية تحضري المحاضرات بقى؟"


ردت بتكاسل:

- "على حسب مزاجي."


لاحظ القلم اللي في إيدها، كان بيلمع بخفة، وبيطلع صوت وهم بيتم تدويره.

- "هو ده قلم عادي؟ ولا في حاجة جوّه؟"


- "فيه إبرة."


- "للوخز بالإبر؟"


ردت وهي بتهزر وبتلمس رقبتها بخفة:

- "سلاح سري للقتل... من عالم الكونغ فو."


ضحك "جاسر" بصوت عالٍ.

- "أنا شفت الفيديو بتاعك من فيلم Le Mirage. مع إنه كان فيه مونتاج، بس عرفتك. لولا الوخز بالإبر، احمد كان زمانه مات."


سألها بفضول حقيقي:

- "إنتي اتعلمتي الحاجات دي منين؟"


نظرت له بازدراء خفيف:

- "واضح إنك بتقرا روايات كتير دلوقتى."


زاد فضوله:

- "بس ليه اخترتي تدرسي أحياء مش طب؟"


رفعت القلم ناحية رقبته وقالت:

- "عارف المقولة اللي بتقول... الميت بس هو اللي مابيتكلمش؟"


ضحك "جاسر" واتراجع بخوف ساخر:

- "استني بس! خلينا نتكلم الأول يا محاربة!"


غطت "سيلا" فمها بتثاؤب صغير، وخلعت نظارتها وهي تفرك عينيها.


- "سهرتي؟ عنيكي شبه الباندا!"


- "أيوه، طول الليل في المعمل. أول حاجة بفكر فيها دلوقتي... سرير!"


- "فيه مكان في مجلس الطلبة للراحة. لو تحبي، ممكن تنامي هناك شوية."


ترددت لحظة، ثم قالت بصوت خافت:

- "هزعجك كده؟"


- "أنا رئيس مجلس الطلبة، مش هتزعجيني."


- "ماشي، كده أنا مَدينة ليك بمعروفين."


وقبل أن يُكمل "جاسر" جملته، سُمِع صوت أنثوي من بعيد:

- "جاسر! بدوّر عليك بقالنا كتير!"


اقتربت مجموعة من الفتيات، تتقدمهن شابة فائقة الجمال، شعرها الطويل ينسدل حتى خصرها.


وعندما رأت مدى قرب "جاسر" من "سيلا"، تلألأ الحقد في عينيها.


نظرت "سيلا" إلى "جاسر" وسألته بنبرة ساخرة:

- "دي حبيبتك؟"


أنكر جاسر بنبرة هادئة وهو يعدّل جلسته:

"زميلة دراسة."


كانت الفتاة ذات الشعر الطويل والمظهر البراق هي سالى زهران، ملكة جمال جامعة ايجه، والفتاة التي لطالما أشاعت أنها حبيبه جاسر... بينما لم يعترف هو بذلك يومًا.


رغم الصدمة التي لَمَعَت في عينيها للحظة، لم تُظهر سالى انزعاجها، بل حافظت على ابتسامة مصطنعة وهي تقول:

"انتى جميله جدا . طالبة جديدة؟"


ردّت سيلا بخفة:

"في السنة التانية، علوم بيولوجية."


وقبل أن تكمل، قاطعتها فتاة ذات ملامح مشرقة وشعر قصير:

"استني... إنتِ المتفوقة في اختبار الـSAT السنة اللي فاتت؟"


أجابت سلا بأدبٍ وهدوء:

"كنت محظوظة."

ثم تثاءبت قليلًا، وصوتها بدأ يميل للكسل:

"هقوم أمشي دلوقتي... مع السلامة."


راقبتها الفتاة ذات الشعر القصير وهي تبتعد ثم التفتت للجميع:

"بما إن ده أول يوم دراسة، إيه رأيكم نجتمع على العشا؟ هتبقى بداية حلوة للسنة!"


تدخّل جاسر على الفور بنبرة عملية:

"أنا هعزمكم... نختار فيلفيت فاين."


---


بعد قيلولة قصيرة في صالة اتحاد الطلبة، تلاشت الهالات السوداء من تحت عيني سيلا، واستعادت بعضًا من طاقتها. ولم تمرّ سوى لحظات حتى وصلتها دعوة من جاسر لتناول العشاء.


ظنّت أن وجهتهم مطعم بسيط قريب من الجامعة، لكنهم عند وصولهم أدركوا أن فيلفيت فاين مكان فخم وذو ديكور أنيق... يفوق توقّعاتهم بكثير.


كان عدد الطلاب المدعوين سبعة أو ثمانية، بتوازن واضح بين الذكور والإناث.

ولأن سيلا لم تكن تذهب إلى الجامعة كثيرًا، لم تعرف أحدًا غير جاسر.


تقدّمت منها الفتاة القصيرة الشعر:

"إنتِ سيلا، صح؟ أنا ورد نصار، من قسم القانون، دفعة أعلى منك."


ابتسمت سيلا بأدب:

"في الحقيقة، القانون لايق عليكِ... شكلك جذاب، وأنا متأكدة إنك هتكوني واحدة من الستات القويات في مجال المحاماة."


المديح، وإن بدا بسيطًا، كان له تأثير مباشر على ورد، خاصة وأن انطباعها الأولي عن سيلا كان جيدًا.


وربما... أيضًا، لأن سالى كانت عدوّتها اللدودة.


رغم أن كل واحدة منهنّ في قسم مختلف، إلا أنهما كانتا عضوتين في اتحاد الطلاب، والاحتكاك بينهما مستمر.


لسنوات، اعتبرت سألى نفسها حبيبة جاسر، ولم يكن لأحد أن يعترض، بحكم مكانة عائلتها الرفيعة.


لكن ورد... كانت مستنيه  الفرصة.

وها قد جاءت.


كفتاة ذكية، لم تكن سالى لتُخدع بسهولة، لكنها كذلك لم تتوقّع أن تستغل ورد سيلا بهذه السرعة كورقة ضغط.


وهنا، قُطِعَت الأجواء بابتسامة مُتصنّعة من إحدى الفتيات بجانب سالى، وهي تقول بسخرية واضحة:

"الجامعه كلها بتتكلم عنكِ، سيلا. بيقولوا الشرطة احتجزتكِ من كام يوم... ده حقيقي؟"


لم تُعلّق سيلا، بينما قاطعتها فتاة أخرى بابتسامة باردة:

"فيه قواعد واضحة، الطلبة اللي بيعملوا مشاكل كبيرة بيطردوا."


تحرّك جاسر في مقعده وهمّ بالحديث، لكن ورد سبقته بنبرة حازمة:

"لو عاوزة تتهمي سيلا، يبقى لازم عندك دليل. غير كده، ده تشهير واضح."


ضحكت سالى بخفّة:

"الإشاعات انتشرت في الجامعة كلها."


رفعت سيلا حاجبيها، ثم قالت بصوت ثابت:

"اللي بتتكلم عني غالبًا هي جنى، صح؟ أكيد قالتلكم إن الشرطة احتجزتني، ويمكن كمان قالت إني جيت ازمير علشان أسرق فلوس عايلة التهامى... وإنّي بتخانق وأعمل فوضى زي فَلاحة ساذجة."


جَمُدَ وجه سالى . لم تتوقّع من سيلا تلك المواجهة المباشرة.


لكن سيلا كانت هادئة، تنظر للجميع بثقة، ثم أضافت بابتسامة باردة:

"كنت فاكرة اللي بيدخل جامعه ايجه لازم يبقى ذكي، بس الظاهر إنّي كنت غلطانة."


قالت ورد بسرعة:

"أنا  ما صدّقتش الكلام ده."


جاسر أومأ:

"وأنا كمان."


التوت شفتا سالى غضبًا من انحياز جاسر لسيلا.


همست لها الفتاة التي بجانبها وهي تَنقُر على كتفها:

"بُصي هناك..."


نظرت سالى إلى الخارج، حيث الباب ما زال مفتوحًا، لتقع عيناها على رجل مألوف...

"العم عثمان."


كان عثمان، أحد أبرز رجال ازمير، جالسًا مع بعض الأصدقاء في الخارج.

لكن ما إن لمح سيلا حتى همس بشيء لأصدقائه، وتقدّم نحو الغرفة.


فور دخوله، ساد صمت ثقيل، وخفّت الأصوات شيئًا فشيئًا.


رغم أن سالى كانت تناديه بعمي، إلا أنه لم يلتفت لها أولًا، بل كانت عيناه موجهتين نحو سيلا.


عثمان، الرجل لاولى لعائلة زهران، لم يكن مجرد قريب... بل أحد أعمدة النفوذ في المدينة.


قال وهو يتفحّص الجميع:

"جايين تتعشوا؟"


أجابت سالى بحماسة:

"أيوه. بما إنه أول يوم دراسة، قررنا نخرج ناكل سوا."


سألته بارتباك:

"تحب تتعشّى معانا، عمي عثمان؟"


ابتسم بأدب، وقال ببساطة:

"ماشي."


تجمّدت وجوه الحاضرين للحظة، ثم بدأت الملاعق تتحرّك من جديد، لكن الجو بقى مشدود.


أما جاسر، فكان وجهه متيبّسًا.


فالخلاف القديم بين عائلة صقر اغلو  وزهران ليس سرًا، وكان لقاؤهما على طاولة واحدة أمرًا لافتًا.


الوحيدة التي لم تتأثر... كانت سيلا.


جلست تشرب عصيرها بهدوء، متجاهلة حقيقة أن عثمان اختار أن يجلس بجانبها.


نظرت ورد إليها بإعجاب خفي.

هذا هو عثمان زهران... وهي، الريفية، تتصرّف وكأنها جالسة جنب شخص عادي.


قال عثمان بابتسامة بسيطة:

"كنتم بتتكلموا عن إيه؟ كملوا ع

ادي."


سارعت سالى بتوجيه الحديث:

"كنا بنتعرّف على صاحبتنا الجديدة. هي مش من دفعتنا، بس أول مرة تيجي هنا. فضولنا شغال."

وأشارت نحو سيلا:

"هي، اللي قاعدة جنبك."


نظر عثمان نحوها بتمعّن، بينما التفتت سيلا نحو سالى وسألتها:

"يعني إيه بالظبط اللي خلاكِ فضولية عني؟"


تظاهرت سالى بالبراءة:

"أصلنا سمعنا إنك من الريف، وفجأة جيتي ازمير. قولنا يمكن بتواجهي صعوبة في التأقلم."


أجابت سيلا وهي تأكل بهدوء:

"متأقلمة كويس جدًا."

          ✨✨✨✨✨✨✨

استمتعوا بالفصل 🤩 😍 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العرافة

العرافة

العرافة