العرافة
الفصل الثاني
حين وصلت سيارة عثمان إلى ملهى La Nuit Rouge، كانت سيلا تنتظره أمام المدخل، بجوار لوح التزلج، كأنها ملكة تنتظر إعلان نهاية المعركة.الغرفة 1900، مقر عثمان الخاص.
جلس عثمان خلف طاولة فاخرة، يشرب نبيذ بهدوء وثقة.
لم يكن يعلم بزواجه سوى قبل ثلاثة أيام.
بعد وفاة والده، وبينما كان يستلم مسؤوليات العائلة، سلّمه المحامي حقيبة جلدية تحوي أوراق زواجه.
اختار له والده زوجة تدعى سيلا، وتزوّجا رسميًا بعقد قانوني.
الآن، هي جالسة أمامه، تعبث بقلمها المعدني، ويعلو ملامحها الزهق.
قبل أيام، دقّ باب منزلها، لتجد عثمان يقف هناك ومعه وثائق الزواج.
سألها: «ليه اتجوزنا؟»
وكان ذهولها لا يقل عن ذهوله.
لو لم يأتِ، ما كانت لتعرف.
شدّ انتباهه القلم الذي تديره في يدها بخفة. قلم نادر، يدور وكأنه آلة موسيقية صغيرة.
أشار لسليم: «خرج الورق.»
ناولها سليم وثيقة أنيقة.
«آنسة سيلا، دي اتفاقية الطلاق. لو كل حاجة واضحة، ممكن توقعي.»
تصفحت سيلا الوثيقة دون اكتراث. أغلبها بنود تحفظ سرية زواج لم تعرفه أصلًا.
لكنها توقفت فجأة عند بند معين: «فين التعويض المالي؟»
ناولها سليم شيكًا على بياض.
قال عثمان، وهو يدير كأسه: «والدي كان مديون لوالدك بالتبني. وإحنا مش هنبخل بتعويض. اكتبي اللي انتي عايزاه.»
«يعني أكتب أي رقم؟»
«طالما وافقتي على البنود... الشيك ساري.»
ابتسمت:
«تمام... شكرًا.»
وبهدوء، حوّلت قلمها الدوّار إلى قلم توقيع، وبدأت تكتب أرقامًا طويلة في خانة المبلغ.
وعندما استمرت بالكتابة، سعل سليم بخفة وكأنه يذكّرها أن تتوقف.
نظرت لهما بمكر: «كتير؟»
قال عثمان بهدوء: «الفلوس بتتجاب تاني... المهم تكوني راضية.»
ضحكت: «إنت شخص غريب... وعجبني ده.»
ثم... بحركة مفاجئة، اشتعل لهب خفيف من طرف قلمها، وأحرقت الشيك أمام أعينهم.
انطفأ اللهب، وعاد القلم إلى حالته الأصلية. ثم وقّعت باسمها.
كان توقيعها فنيًا كلوحة زيتية... حادّ وجميل.
رنّ هاتفها برسالة، تجاهلتها، ودفعت الاتفاقية باتجاه عثمان.
قالت بنبرة واثقة: «إحنا مش هنبقى زوج وزوجة، بس مش لازم نتحوّل لأعداء. من النهاردة، كل واحد فينا له طريق. وماتقلقش، سرّ زواجنا في أمان.»
أخذت هاتفها، ووقفت، ثم ارتدت قناعها: «عندي حاجات لازم أعملها. هستأذن.»
تابعها عثمان بنظرة طويلة.
وقبل أن تختفي تمامًا، قال:
«بُكرة بعد الضهر، نتقابل بعض في البلدية.»
لوّحت سيلا بيدها دون أن تلتفت، إشارة منها بأنها سمعت ما قيل، لكن لا نية لها في الرد.
ظل سليم واقفًا في مكانه، يتابع ظلها وهو يبتعد، ثم همس لنفسه كمن أفاق لتوّه من غيبوبة:
"هي فعلاً وقّعت على ورق الطلاق؟ كده وبكل بساطة؟"
كان عثمان جالسًا في مكانه، يحتسي نبيذه الأحمر بهدوء، ثم قال بصوت منخفض دون أن ينظر إليه:
"هاتلي ملفات سيلا."
أخذ سليم نفسًا عميقًا، ثم قال بصدق:
"الآنسة سيلا هي بنت جمال ومراته الأولى مريم... زمان، كانت عيلة التهامى لسه عندهم شوية أصول، لكن مريم كانت طالعة من دار أيتام، أبوها وأمها مش معروفين."
توقّف لحظة، ثم أكمل بصوت مائل للحزن:
"بعد تلات سنين جواز، مرات جمال الجديدة، شهيره، خلفت توأم: ولد وبنت... وساعتها متقبلتش خيانته واخدت بنتها ومشت والتحريات بتقول ان مريم اختفت من فتره بعيده ."
شد عثمان حاجبه وهو يسمع الاسم، فسأله:
"اختفت مريم؟ مش ماتت؟"
رد سليم مؤكدًا:
"أيوه، اختفت ومحدّش عرف لها طريق... ومن ساعتها، البنت اتربّت مع أب بالتبني في بلدة صغيرة في الجنوب، بعيد عن كل حاجة."
عثمان كان بيحاول يفهم أكتر، فغمغم:
" جمال بيدور عليها بعد سنين؟ ليه؟"
هنا، قال سليم وهو بيحاول يخفي اشمئزازه:
"علشان جاد... ابن شهيره."
ذكر الاسم كان كافي يخلي الجو يبرد، وبالفعل ظهرت لمعة غامضة في عين عثمان.
سليم تابع بصوت فيه غضب متكتم:
"الواد ده... مدلع، وصايع، ويخبط الناس بالعربية، بيتخانق، اتصاحب مع بلطجيه، ومرّة خلّى بنت تنتحر. لما شرحوا جثتها، لقوا إنها حامل!"
سكت لحظة ، وبعدين قال:
"وفي الآخر، ربنا حكم، واتصاب بمرض خطير، وعايز زرع كلية بسرعة."
ابتسم عثمان بسخرية، كأن الصورة اتجمعت قدامه أخيرًا:
"فجأة، جمال اللي عمره ما اهتم ببنته، بقى يترجّاه عشانها؟ كان كل ده تمثيل؟"
أومأ سليم برأسه:
"واضح جدًا إنه كان بيحاول يضغط عليها تتبرع بكليتها لجاد."
قال سليم بتردد:
"تحب نبلّغهم إن قضيه سيلا خلصت؟"
ضحك عثمان بخفة:
"نبلّغهم؟
اتكأ عثمان على الكرسي وقال بهدوء مرعب:
"أنا مش فارق معايا غير جنى... إذا كانت عيلتها ماتت أو عايشة، مالناش دعوة. بس سيلا... البنت دي ذكية بزيادة، كل خطوة محسوبة لاعبة شطرنج محترفه"
سليم ما علّقش، لكنه في سره، كان رافع لها القبعة.
عرفت إزاي تهرب من عملية الزرع بحيلة ذكية، استخدمت نفوذ عثمان بحنكة، دخلت مركز الاحتجاز وهي عارفة إن ده أنسب حل يوقف كل حاجة مؤقتًا.
حتى لو جاد مات... هي مش مسئولة.
والأذكى، إنها وفّرت على عثمان مجهود إجبارها على الطلاق، وعملت اللي هو عايزه، وفي نفس الوقت، كشفت قُبح عيلة التهامى البنت دي متفوقة بذكائها، يمكن أكتر حتى من جنى، العالمة العبقرية.
سأله عثمان فجأة:
"جنى عاملة إيه في مجال القرصنة؟"
رد سليم:
"مفيش زيها... الأفضل على مستوى البلد."
سأله وهو بيحدّق فيه:
"وزيرو؟ مين الأفضل؟"
سليم اتردد لحظة، ثم قال:
"زيرو بلا منازع... لو مكانه معروف، مكنّاتش جنى دخلت الصفقة دي أصلاً."
غمغم عثمان:
"وكل اللي عملته جنى... وقع في لحظة. غلطة واحدة ضيعت مجهودها كله."
---
فى ملهى Le Mirage، صوت الموسيقى العالي وضوء الألوان الخافتة خلى سيلا تكشر، الجو دا مش على مزاجها أبدًا.
وقبل ما تدخل، حسّت بإيد بتمتد من وراها، وقبل ما حد يلمسها، لفّت بسرعة، مسكة دراع المهاجم وكادت تشيله فوق كتفها.
صوت مألوف قال بقلق:
"أنا أنا... سيلا! استني!"
لما بصّت كويس، شافت شاب وسيم، ملامحه فيها جمال غامض، صعب تعرف هو ولد ولا بنت من أول نظرة.
لابس بدلة كاجوال لونها أزرق سماوي، شكله يشبه أبطال المسلسلات اللي بيطلعوا دايمًا بـ "اللوك" المتكامل.
فرك دراعه وقال وهو بيضحك:
"يا بنتى إنتي عضلات! ده أنا كنت بهزر!"
ردّت عليه ببرود:
"والهزار من ورا له ضريبة. إنت نسيت أنا مين؟"
ضحك ماجد الالفى ، وابتسامته كشفت عن أسنانه البيضا.
"هو أنا لسه هتعوّد؟ من يوم ما عرفتك وأنا متعود آخد علقة كل ما أقرب."
عدّى نادل وهو شايل طبق فاكهة، ولما شاف ماجد قال:
"يا باشا."
لكن عنيه كانت على سيلا، ماقدرتش تتفادى نظرته.
كل الناس في الملهى كانوا وسيمين، لكن سيلا... كانت مختلفة، جمالها يلفت النظر وسط الزحمة.
لوّح له ماجد إنه يمشي بعد ما قاله على الطلبات، وبعد تردد، النادل مشى
جلس ماجد وسحب سيلا تقعد جنبه، وسألها:
"إيه رأيك في الستايل هنا؟"
ردت وهي بتراقبه:
"مش إنت كنت محامي؟"
ضحك وقال بهدوء:
"دي كانت شغلانة جانبية، دي البزنس الأساسي... الملهى ده."
رفعت حواجبها بدهشة:
"إنت مجنون رسمي."
ماجد الالفى كان معروف، أي قضية يمسكها يكسبها، وسمعته في المحاماة كانت ذهب، لكن فجأة بقى صاحب ملهى!
رجع النادل ومعاه مشروبين: كوكتيل أزرق وكوباية لبن دافئ.
ماجد قدملها اللبن وقال وهو بيصطدم بكأسه:
"يلا نشرب نخب الرجوع."
سيلا بصّت له باستغراب:
"ده اللي جايبني عشانه؟ كوباية لبن؟"
ابتسم وقال:
"كان لازم أشوفك، من إمتى وإنتي هنا؟"
"ليّا سنة تقريبًا."
"ولو مكنتش سمعت إنك كنتي محتجزة، كنتي هتفكّري تتواصلي معايا أصلاً؟"
سكتت شوية، وبعدين قالت بصراحة:
"كنت فـ أزمة ومكنتش عايزة أضر اللي حواليا... فبعدت."
"طب ما تقولي إيه الأزمة؟"
"ما تسألش!"
"إنتي شايفاني مش صديق؟"
"أنا شايفاك صديق، عشان كده مش هقولك!"
سكت ماجد، وبص ليها بنظرة عتاب صامت.
هي كمان شربت اللبن كله في جرعة واحدة، وقالت بنبرة هادئة:
"بس رجوعي خلاص حصل... والماضي قفلته."
ماجد سألها فجأة:
"طب ليه خلتّي عايلة التهامى تلاقيك؟ لو كنتي عايزة تفضّلي مختفية؟"
سيلا رفعت عنيها وبصّت له، ونظرتها فيها إجابة...
بس لسه مش جاهزة تقولها.
بفضل قدرات سيلا الخارقة في التمويه، كان من السهل تفادي مراقبة عائلة التهامى.
ابتسمت ابتسامة هادئة، تحمل في طياتها خبثًا متقنًا، وقالت:
ـ "أنا ليا خطتي... وهعرف أوقعهم في الفخ وقت ما أحب."
وقبل أن يفتح ماجد فمه ليسأل، انطلقت فجأة صرخات مفزعة من قلب حلبة الرقص.
صرخ أحدهم:
ـ "يا ناس! حد وقع ميت!"
توقفت الموسيقى فجأة، وتحولت الأجواء من صخب هستيري إلى فوضى عارمة.
تجمهر الناس، وانفرطت الحشود الراقصة كأنها موجة انفجرت على الشاطئ.
كانت هناك فتاة تجلس القرفصاء، تحتضن جسد شاب ملقى على الأرض، ودموعها لا تتوقف.
أسرع موظفو الملهى الليلي بالاتصال بخط الطوارئ، بينما تقدمت سيلا بخفة. وضعت قناعًا طبّيًا على وجهها وسارت نحو المركز. انحنت وأمسكت معصم الشاب، تتحسس نبضه بإصبعين دقيقين.
أنفاسه كانت ضعيفة، وجهه تحول إلى ازرق، وجسده ساكن لا حراك فيه، كأن روحه انسلت منذ لحظات.
صرخت الفتاة وهي تهزه:
ـ "احمد ! فوق! بالله عليك فوق!"
لكن صوتها كان يتخلله البكاء والرعب.
نظرت إليها سيلا بنفاد صبر وقالت:
ـ "هو لسه ما ماتش... بتعيّطي على إيه؟!"
ارتجفت الفتاة، ولم تستطع الرد.
سألتها سيلا ببرود احترافي:
ـ "هو عنده مشاكل في القلب؟"
هزت رأسها بالنفي:
ـ "معرفش! كنا بنرقص وكان عادي... فجأة قال إنه مش قادر يتنفس... وقَع!"
دون أن تنبس سيلا بكلمة، مزقت قميص الشاب، وأخرجت قلمًا صغيرًا كانت تعبث به. بضغطة خفيفة، خرجت إبرة فضية رفيعة من رأسه.
وبثبات لا يتزعزع، بدأت تغرز الإبرة في نقاط معينة بجسده.
ساد صمت عميق... لم يعد يُسمع سوى أنفاس القلق.
تسارعت النظرات تجاه هذه الفتاة الغريبة... القناع... الهدوء... والثقة.
كان ماجد قد اقترب أيضًا، وهتف:
ـ "محدش يقرب! وسّعوا المكان وسيبوا الهوا يدخُل. خالد ، الإسعاف فاضل لها قد إيه؟"
رد النادل سريعًا:
ـ "خمس دقايق بالكثير!"
وبينما استمرت سيبا في وخز النقاط المحددة، سعل الشاب فجأة وسقط من فمه دم .
شهق الجمهور في هلع. فتح الشاب عينيه، يتنفس بصعوبة، لكنه حي.
وصلت سيارة الإسعاف.
وفي اللحظة التي دوّت فيها صفارتها بالخارج، سحبت سيلا الإبر الفضية، وكأنها لم تكن هناك.
اندفع المسعفون إلى الداخل، واستفسروا عن الحالة.
قال الشاب وهو يتحسس صدره:
ـ "كان في حاجة خانقاني هنا... بس دلوقتي خفّت."
قال أحد الواقفين بدهشة:
ـ "البنت دي... شكلها دكتورة أو حاجة!"
قال آخر:
ـ "فين راحت؟!"
لكن سيلا... اختفت. كأن الأرض ابتلعتها.
---
في اليوم التالي، أقيمت مراسم الذكرى الأولى لوفاة جلال زهران، والد عثمان.
كان الحضور كثيفًا... مئات السيارات الفاخرة مصطفة أمام المقبرة العائلية، التي تقع وسط الجبال، وقد اختيرت بعناية بناءً على علم الرمل، وفق تقاليد عائلة زهران.
تقدم عثمان بخطى ثابتة، مرتديًا بدلة سوداء فاخرة، وبجانبه سليم وزين، مساعداه المخلصان.
تبعه حشد من الحراس الشخصيين، ثم أفراد العائلة، صفوفًا مرتبة في انتظار بدء المراسم.
بانضباط عسكري، انحنى عثمان أمام قبر والده، ثم جثا على ركبتيه.
تبعه الجميع في لحظة صمت مهيبة.
، وقف عثمان شامخا، ونظر للحاضرين بوجهٍ متجهم.
قال بصوت رخيم، يشقّ السكون:
ـ "أكيد كلكم عارفين إن والدي مات في حادثه."
أكمل بنبرة غامضة:
ـ "بس أنا ما صدقتش أبدًا إنها كانت مجرد صدفة."
تابع بنبرة أشد حزمًا:
ـ "في يوم دفنه... أقسمت قدّام نفسي إني هوصل للجاني قبل مرور الذكرى السنويه الاولى ."
بدأت الهمسات تتسلل بين الجموع.
من يجرؤ على قتل رب عائلة زهران؟
تابع عثمان بنظرة فاحصة:
ـ "أنا هدي فرصة لأي حد يعترف... لو اعترفت بنفسك، هتسلم من العقوبة."
لكن لم ينبس أحد بكلمة.
سخر عثمان وقال ببرود:
ـ "فرصتك ضاعت."
أشار لزين، الذي نقر بأصابعه.
وفي لمح البصر، سُحب رجل في منتصف العمر نحو الحشد، ثم أُجبر على الركوع.
همس البعض:
ـ "ده سواق جلال باشا!"
صرخ الرجل:
ـ "أنا معرفش حاجة! أقسم بالله ما أعرف! أرجوك... أرجوك!"
داس زين على ظهره، وأوقف توسلاته.
قال عثمان بصوت بارد:
ـ "أبويا لازم يرتاح في قبره."
ثم أضاف:
ـ "السيد توفيق صوته عالي."
وقبل أن يدرك أحد ما يحدث، خلع زين فك الرجل بيد واحدة.
صرخ السائق بألم لا يُحتمل، واهتزّت المقبرة كلها بالرعب.
أخرج عثمان منديله ومسح صورة والده على القبر، وقال بنبرة قاتلة:
ـ "طالما إنك ما كنتش تعرف، يبقى ترافق اللي كنت بتخدمه."
ضغط سليم على زر صغير.
فُتحت حفرة بجانب القبر.
صرخ الرجل، لكن بلا فائدة.
ركله زين داخل الحفرة، وأمر عثمان:
ـ "ادفنوه حي."
بدأ الحراس يهيلون التراب عليه، بينما كانت أنفاس الحاضرين متجمدة.
تجمّدت الدماء في عروق الجميع.
همس أحدهم في الخلف:
ـ "بس... دفن الناس أحياء... ده ضد القانون!"
لكن عيني عثمان اشتعلتا بالنار وهو يثبت نظره عليه وقال:
ـ "أنت... جاي تعلّمني ايه هو القانون ؟"
كان الرجل يرتجف من شدة الخوف، ففقد أعصابه على الفور، وانحنى برأسه ولم يجرؤ على التفوّه بكلمة واحدة.
لوّح السائق، الذي كان نصف جسده قد دُفن بالفعل، بذراعيه متوسلًا الرحمة.
مسح عثمان يديه بهدوء، ثم رمقه بنظرة ازدراء وقال:
"عاوز تعترف؟"
أومأ السائق برأسه بعنف وهو داخل الحفرة.
اقترب عثمان من حافتها، ناظرًا إليه بعينين جامدتين:
"أنا عايز أجوبة واضحة. لو قلت أي كلام فاضي، هموتك!"
أومأ السائق سريعًا، فبادر زين بركل ذقنه ركلة عنيفة.
أصابته الركلة في فكه مباشرة، وبمجرد أن تمكّن من النطق، أشار بيده نحو الحشد قائلًا:
"كان... كان عماد بيه . هو اللي أمرني افك فرامل العربية."
ارتسم الذهول على وجوه الجميع، فالاسم الذي خرج من فمه لم يكن سوى الأخ لعثمان، عماد زهران. لم يتوقع أحد هذا المنعطف المفاجئ.
صرخ عماد بصوت متهدّج:
"أنت بتشوّه سمعتي! إزاي أقتل أبويا؟"
ثم استدار إلى عثمان مستغيثًا:
"عثمان، متصدقوش كلامه. الراجل ده عايز يلبّسني التهمة."
لكن السائق صرخ بكل قوته:
"عندي تسجيل على موبايلي! موجود في الإيميل بتاعي!"
ومن فرط خوفه من أن يُدفن حيًا، أفصح عن عنوان بريده وكلمة المرور دون تردد.
فتح سليم البريد بسرعة قصوى، ووجد بالفعل تسجيلاً صوتيًّا.
وعند تشغيله، انطلق صوت عماد بوضوح، وهو يعطي أوامره للسائق بقتل ابوه.
كان الدليل واضحًا، لا لبس فيه، وشهود العيان حاضرون.
وقبل أن يُتاح لعماد الوقت لاستيعاب ما حدث، حاول الهرب، إلا أن الحراس الشخصيين، بخفة وسرعة، طرحوه أرضًا ومنعوه من الحركة.
نظر إلى عثمان بعينين مرتعشتين وهو يصرخ:
"اسمعني، التسجيل متفبّرك! كل ده كدب!"
لكن عثمان رفع يده، مقاطعًا حديثه:
"عماد قتل أبونا، والدليل قدامنا. طبقوا عليه قوانين العايلة، وابعتوا التسجيل للشرطة."
وتجاهل توسلاته وصراخه، ثم ابتعد، تاركًا الأمر للحراس.
---
في الوقت ذاته، كانت سيلا منشغلة بأمر آخر. اعتادت تجلس فى محل لقراءة الطالع في أول كل شهر، لكنها هذه المرة لم تكن ترغب بالخروج.
فتحت تطبيق تيك توك، وسجلت حسابًا جديدًا.
لم تجد اسمًا مناسبًا، فكتبت أولًا "العرافه"، لكنه كان مأخوذًا، فاختارت "الطالع"، لكنه أيضًا لم يكن متاحًا.
وأخيرًا، استقرّت على اسم "العرافه 0". تم التسجيل بنجاح!
عند بدء البث، استخدمت أداة تغطية الوجه لإخفاء ملامحها، فظهر للمشاهدين ثعبان
اسود يبتسم بمرح. كما فعّلت أداة تغيير الصوت، فصار صوتها محايدًا لا يمكن تمييزه كذكر أو أنثى.
مرت نصف ساعة، ولم يتجاوز عدد المشاهدين ثلاثة.
كتب أحدهم، ويدعى "ركان":
"إنت ولد ولا بنت؟ ليه مش بتورّي وشك؟ شكلك وحش أوي ولا إيه؟"
ردّت سيلا بهدوء:
"شكلي مش مهم. تحبّي أقرأ طالعك؟ في مكان واحد بس كل شهر، لو مهتم ادفع الرسوم."
ردّ ركان ساخرًا:
"الذكاء الاصطناعي بقى رخِم، دايمًا بيقترحلي دجالين!"
فقالت:
"هتاخد المكان ولا لأ؟"
"ببلاش؟"
"500 دولار. ابعتي هدية في البث المباشر."
"بتسرقي الناس علني كده؟"
ورغم السخرية، بدأت الغرفة تزداد نشاطًا.
سأل مشاهد آخر:
"إيه نوع العرافة اللي بتستخدميها؟"
"اتصال مباشر، وقراءة للوجه."
"ولو كلامك طلع غلط؟ أرجّع الفلوس؟"
"الدفع مقابل الحظ، مفيش استرجاع."
ضحك المتابعون ساخرين، لكن فجأة، دخل شخص باسم "قمر" وأرسل هدية بقيمة 2000 دولار.
أرسلت لها سيلا دعوة فيديو فورًا. ظهرت فتاة جميلة في العشرينيات من عمرها، بشعر مربوط على هيئة كعكة.
قالت سيلا:
"الوظيفة، الحب، ولا الفلوس؟ اختاري واحد."
اختارت قمر الحب، وسألت:
"هو حبيبي هيتقدملّي إمتى؟"
نظرت إليها سيلا مطولًا ثم أجابت:
"جوازك هيبقى عند سن اتنين وتلاتين. مفيش علاقة كويسه دلوقتي."
انزعجت قمر:
"كلام فارغ! إحنا سوا بقانا سنتين، وشغله أخده عن طريق أهلي!"
قالت سيلا ببرود:
"قابلتي واحد طماع، وكمان غبي."
صرخت قمر:
"انتي بتقولي إيه؟ دا بيحبني أوي، و عايز يعمللي فرح أسطوري!"
ضحكت سيلا وقالت:
"متقفليش الكاميرا. خدي موبايلك، وانزلي من بيتك، أول لفة شمال، العمارة التانية، الدور السابع، شقة 20، وخبّطي."
"يعني إيه؟"
"في مفاجأة مستنياكي."
بدأ المتابعون يشجعونها:
"روحي، شوفي آخر الفيلم!"
"ممكن تكون بتمثّل!"
"ولا يمكن تكون هي وصاحبة البث متفقين!"
ومع ارتفاع
الحماسة، ازداد عدد المشاهدين إلى 68. قررت قمر مواجهة الأمر.
طرقت باب الشقة كما قالت سيلا. وبعد لحظات، خرجت امرأة تحمل طفلًا صغيرًا.
"بتدوري على مين؟"
سمع الجميع صوت سيلا:
"دوري على حبيبك."
قالت قمر تلقائيًا:
"بدوّر على ريان."
نادت المرأة:
"حبيبي، في واحدة بتسأل عليك."
ضجّت الغرفة بتعليقات المشاهدين:
"دا خيانة ع الهوا!"
"معاهم عيل كمان؟ دي صدمة!"
"دا فيلم حقيقي ولا تمثيل؟"
خرج ريان من الداخل، وعيناه تتسعان في ذهول:
"قال قمر! إنت إزاي هنا؟!"
✨✨✨✨✨✨✨✨✨
x

تعليقات
إرسال تعليق